سورة البقرة - تفسير تفسير الألوسي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (البقرة)


        


{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}
{خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} إشارة إلى برهان لميّ للحكم السابق كما أن {سواء عليهم} [البقرة: 6] إلخ على تقدير كونه اعتراضًا برهان إنّي، فالختم والتغشية مسببان عن نفس الكفر، واقتراف المعاصي سببان للاستمرار على عدم الإيمان أو لاستواء الأنذار وعدمه فالقطع لأنه سؤال عن سبب الحكم، والختم الوسم بطابع ونحوه والأ الحاصل، ويتجوز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارًا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب، وتارة في تحصيل أثر عن أثر اعتبارًا بالنقش الحاصل، وتارة يعتبر معه بلوغ الآخر، ومنه ختمت القرآن والغشاوة على ما عليه السبعة بكسر الغين المجمعة من غشاه إذا غطاه، قال أبو علي: ولم يسمع منه فعل إلا يائي فالواو مبدلة من الياء عنده أو يقال لعل له مادتين وفعالة عن الزجاج لما اشتمل على شيء كاللفافة ومنه أسماء الصناعات كالخياطة لاشتمالها على ما فيها وكذلك ما استولى على شيء كالخلافة، وعند الراغب: هي لما يفعل به الفعل كاللف في اللفافة فإن استعملت في غيره فعلى التشبيه، وبعضهم فرق بين ما فيه هاء التأنيث وبين ما ليس فيه.
فالأول: اسم لما يفعل به الشيء كالآلة نحو حزام وإمام.
والثاني: لما يشتمل على الشيء ويحيط به وحمل الظاهريون الختم والتغشية على حقيقتهما وفوضوا الكيفية إلى علم من لا كيفية له سبحانه، وروى عن مجاهد أنه قال: إذا أذنب العبد ضم من القلب هكذا وضم الخنصر ثم إذا أذنب ضم هكذا وضم البنصر وهكذا إلى الإبهام ثم قال: وهذا هو الختم والطبع والرين، وهو عندي غير معقول، والذي ذهب إليه المحققون أن الختم استعير من ضرب الخاتم على نحو الأواني لأحداث هيئة في القلب والسمع مانعة من نفوذ الحق إليهما كما يمنع نقش الخاتم تلك الظروف من نفوذ ما هو بصدد الانصباب فيها فيكون استعارة محسوس لمعقول بجامع عقلي وهو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه أن يقبله ثم اشتق من الختم ختم، ففيه استعارة تصريحية تبعية، وأما الغشاوة فقد استعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم اجتلائها الآيات والجامع ما ذكر؛ فهناك استعارة تصريحية أصلية أو تبعية إذا أولت الغشاوة شتق أو جعلت اسم آلة على مقيل، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يقال شبهت حال قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من الاستنفاع بها بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم والتغطية ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركبًا والجامع عدم الانتفاع بما أعد له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع الأصلي وهو أمر عقلي منتزع من تلك العدة ثم إن إسناد الختم إليه عز وجل باعتبار الخلق والذم والتشنيع الذي تشير إليه الآية باعتبار كون ذلك مسببًا عما كسبه الكفار من المعاصي كما يدل عليه قوله تعالى: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155] وإلا أشكل التشنيع والذم على ما ليس فعلم كذا قاله مفسرو أهل السنة عن آخرهم فيما أعلم. والمعتزلة لما رأوا أن الآية يلزم منها أن يكون سبحانه مانعًا عن قبول الحق وسماعه بالختم وهو قبيح يمتنع صدوره عنه تعالى على قاعدتهم التزموا للآية تأويلات ذكر الزمخشري جملة منها حتى قال: الشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله سبحانه وتعالى لما كان هو الذي أقدره أو مكنه أسند الختم إليه كما يسند إلى السبب نحو بني الأمير المدينة، وناقة حلوب وأنا أقول: إن ماهيات الممكنات معلومة له سبحانه أزلًا فهي متميزة في أنفسها تميزًا ذاتيًا غير مجعول لتوقف العلم بها على ذلك التميز وإن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة أيضًا مختلفة الاقتضاءات والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الخير والشر تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد قتضى استعداده فيصير مراده بعد تعلق الإرادة الإلهية مرادًا لله تعالى فاختياره الأزلي قتضى استعداده متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكم وأن اختياره فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختياره لما اختاره، فالعباد منساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر وليسوا جبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على تعلق العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعًا لما هو متأخر عنه راتب، فما من شيء يبرزه الله تعالى قتضى الحكمة ويفيضه على الممكنات إلا وهو مطلوبها بلسان استعدادها وما حرمها سبحانه شيئًا من ذلك كما يشير إليه قوله تعالى: {أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ} [طه: 50] أي الثابت له في الأزل مما يقتضيه استعداده الغير المجعول، وإن كانت الصور الوجودية الحادثة مجعولة. وقوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] أي الثابتين لها في نفس الأمر والكل من حيث أنه خلقه حسن لكونه بارزًا قتضى الحكمة من صانع مطلق لا حاكم عليه ولهذا قال عز شأنه: {أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ} [السجدة: 7] و{مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت} [الملك: 3] أي من حيث أنه مضاف إليه ومفاض منه وإن تفاوت من جهة أخرى وافترق عند إضافة بعضه إلى بعض، فعلى هذا يكون الختم منه سبحانه وتعالى دليلًا على سواء استعدادهم الثابت في علمه الأزلي الغير المجعول بل هذا الختم الذي هو من مقتضيات الاستعداد لم يكن من الله تعالى إلا إيجاده وإظهار يقينه طبق ما علمه فيهم أزلًا حيث لا جعل {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} [النحل: 33] تعالى في إظهاره إذ من صفاته سبحانه إفاضة الوجود على القوابل بحسب القابليات على ما تقتضيه الحكمة {ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} حيث كانت مستعدة بذاتها لذلك فحينئذ يظهر أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الإيجاد حقيقة ويحسن الذم لهم به من حيث دلالته على سوء الاستعداد وقبح ما انطوت عليه ذواتهم في ذلك الناد {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ والذى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا} [الأعراف: 58] وأما ما ذكره المفسرون من أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الخلق فمسلم لا كلام لنا فيه، وأما إن الذم باعتبار كون ذلك مسببًا عما كسبه الكفار إلخ فنقول فيه: إن أرادوا بالكسب ما شاع عند الاشاعرة من مقارنة الفعل لقدرة العبد من غير تأثير لها فيه أصلًا وإنما المؤثر هو اتعالى فهو مع مخالفته لمعنى الكسب وكونه {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمان مَاء حتى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39] لا يشفى عليلًا ولا يروى غليلًا إذ للخصم أن يقول أي معنى لذم العبد بشيء لا مدخل لقدرته فيه إلا كمدخل اليد الشلاء فيما فعلته الأيدي السليمة وحينئذ يتأتى ما قاله الصاحب بن عباد في هذا الباب: كيف يأمر الله تعالى العبد بالإيمان وقد منعه منه وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول: {أنى يُصْرَفُونَ} [غافر: 69] ويخلق فيهم الإفك ثم يقول: {أنى تُؤْفَكُونَ} [الأنعام: 95] وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول: {لِمَ تَكْفُرُونَ} [آل عمران: 70] وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول: {لم تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} [آل عمران: 71] وصدهم عن السبيل ثم يقول: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [آل عمران: 99] وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ} [النساء: 39] وذهب بهم عن الرشد ثم قال: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49]؟ فإن أجابوا بأن لله أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء: 23] قلنا لهم: هذه كلمة حق أريد بها باطل وروضة صدق ولكن ليس لكم منها حاصل لأن كونه تعالى لا يسأل عما يفعل ليس إلا لأنه حكيم لا يفعل ما عنه يسأل وإذا قلتم لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه فوجه مطالبة العبد بأفعاله كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألوانًا وإدراكات وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرائع العظام ورد ما ورد عن النبيين عليهم الصلاة والسلام.
وإن أرادوا بالكسب فعل العبد استقلالا ما يريده هو وإن لم يرده الله تعالى فهذا مذهب المعتزلة وفيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة واقتحام ورطات الضلال وسلوك مهامه الوبال.
مسا ولو قسمن على الغواني *** لما أمهرن إلا بالطلاق
وإن أرادوا به تحصيل العبد بقدرته الحادثة حسب استعداده الأزلي المؤثرة لا مستقلًا بل بإذن الله تعالى ما تعلقت به من الأفعال الاختيارية مشيئته التابعة لمشيئة الله تعالى على ما أشرنا إليه فنعمت الإرادة وحبذا السلوك في هذه الجادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسطها وإقامة الأدلة على صحتها وإماطة الأذى عن طريقها إلا أن أشاعرتنا اليوم لا يشعرون وأنهم ليحسبون أنهم يحسنون صنعًا ولبئس ما كانوا يصنعون.
ما في الديار أخو وجد نطارحه *** حديث نجد ولا خل نجاريه
وأما ما ذكره المعتزلة لا سيما علامتهم الزمخشري فليس أول عشواء خبطوها وفي مهواة من الأهواء أهبطوها ولكم نزلوا عن منصة الإيمان بالنص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة واستيفاء لما كتب عليهم من المحنة وطالما استوخموا من السنة المناهل العذاب ووردوا من حميم البدعة موارد العذاب، والشبهة التي تدندن هنا حول الحمى أن أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم بها ولا قامت حجة الله تعالى عليهم وهي أوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت، وقد علمت جوابها مما قدمناه لك وليكن على ذكر منك على أنا نرجع فنقول إن أسندوا الملازمة وكذلك يفعلون إلى قاعدة التحسين والتقبيح، وقالوا: معاقبة الإنسان مثلًا بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائبًا، قيل: ويقبح في الشاهد أيضًا أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش رأى ومسمع ثم يعاقبه على ذلك مع القدرة على ردعه ورده من الأول عنها وأنتم تقولون إن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة لله تعالى على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها لنفسه ذلك فهو ثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبى به الحريم وذلك في الشاهد قبيح جزمًا {فَانٍ قَالُواْ} ثم حكمة استأثر اتعالى بعلمها فرقت بين الغائب والشاهد فحسن من الغائب ذلك التمكين ولم يحسن في الشاهد {قُلْنَا على سَبِيلٍ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس} ما المانع أن تكون تلك الأفعال مخلوفة لله تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة وحكمة استأثر بها كما فرغتم منه الآن حذو القذة بالقذة؟ا على أن في كون الخاتم في الحقيقة هو الشيطان مما لا يقدم عليه حتى الشيطان ألا تسمعه كيق قال: {فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] فلا حول ولا قوة إلا بالله. وليكن هذا المقدار كافيًا في هذا المقام ولشحرور القلم بعد إن شاء الله تعالى على كل بانة تغريد بأحسن مقام {والقلوب} جمع قلب وهو في الأصل مصدر سمي به الجسم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو مشرق اللطيفة الإنسانية، ويطلق على نفس اللطيفة النورانية الربانية العالمة التي هي مهبط الأنوار الإلهية الصمدانية وبها يكون الإنسان إنسانًا وبها يستعد لاكتساب الأوامر واجتناب الزواجر وهي خلاصة تولدت من الروح الروحاني ويعبر عنها الحكيم بالنفس الناطقة ولكونها هدف سهام القهر واللطف ومظهر الجمال والجلال ومنشأ البسط والقبض ومبدأ المحو والصحو ومنبع الأخلاق المرضية والأحوال الردية، وقلما تستقر على حال وتستمر على منوال سميت قلبًا فهي متقلبة في أمره ومنقلبة بقضاء الله وقدره. وفي الحديث: «إن القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح» وقد قال الشاعر:
قد سمي القلب قلبًا من تقلبه *** فأحذر على القلب من قلب وتحويل
وتسمية الجسم المعروف قلبًا إذا أمعنت النظر ليس إلا لتقلب هاتيك اللطيفة المشرقة عليه لأنه العضو الرئيس الذي هو منشأ الحرارة الغريزية الممدة للجسد كله ويكنى بصلاحه وفساده عن صلاح هاتيك اللطيفة وفسادها لما بينهما من التعلق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وكأنه هذا قال صلى الله عليه وسلم: «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» وكثير من الناس ذهب إلى أن تلك المضغة هي محل العلم، وقيل: إنه في الدماغ وقيل إنه مشترك بينهما وبني ذلك على إثبات الحاوس الباطنة والكلام فيها مشهور. ومن راجع وجد أنه أدرك أن بين الدماغ والقلب رابطة معنوية ومراجة سرية لا ينكرها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لكن معرفة حقيقة ذلك متعززة كما هي متعذرة والإشارة إلى كنه ما هنلك على أرباب الحقائق وأصحاب الدقائق متعسرة، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه، والعجز عن درك الإدراك إدراك. والسمع مصدر سمع سمعا ومساعا ويطلق على قوة مودعة في العصب المفروش أو المبطل في الأذن تدرك بها الأصوات ويعبر به تارة عن نفس الأذن وأخرى عن الفعل نحو {إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء: 212]، والأبصار جمع بصر وهو في الأصل عنى إدراك العين وإحساسها ثم تجوز به عن القوة المودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين الواصلتين من الدماغ إلى الحدقتين التي من شأنها إدراك الألوان والأشكال بتفصيل معروف في محله وعن العين التي هي محله، وشاع هذا حتى صار حقيقة في العرف لتبادره وهو المناسب للغشاوة لتعلقها بالأعيان ويناسب الختم ما يناسب الغشاوة، وإنما قدم سبحانه الختم على القلوب هنا لأن الآية تقرير لعدم الإيمان فناسب تقديم القلوب لأنها محل الإيمان والسمع والأبصار طرق وآلات له وهذا بخلاف قوله تعالى: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية: 23] فإنه مسوق لعدم المبالاة بالمواعظ ولذا جاءت الفاصلة {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23] فكان المناسب هناك تقديم السمع، وأعاد جل شأنه الجار لتكون أدلة على شدة الختم في الموضعين فإن ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته وختمت داره كان أقوى المنع عنه وأظهر في الاستقلال لأن إعادة الجار تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدى به حتى كأنه ذكر مرتين، ولذا قالوا في مررت بزيد وعمرو: مرور واحد، وفي مررت بزيد وبعمرو: مروان، والعطف وإن كان في قوة الإعادة لكنه ليس ظاهرًا مثلها في الإفادة لما فيه من الاحتمال. ووحد السمع مع أنه متعدد في الواقع ومقتضى الانتظام بالسباق. واللحاق أن يجري على نمطهما للاختصار والتفنن مع الإشارة إلى نكتة هي أن مدركاته نوع واحد ومدركاتهما مختلفة وكثيرًا ما يعتبر البلغاء مثل ذلك، وقيل: إن وحدة اللفظ تدل على وحدة مسماه وهو الحاسة ووحدتها تدل على قلة مدركاتها في بادىء النظر فهناك دلالة التزام ويكفي مثل ما ذكر في اللزوم عرفا ومنه يتنبه لوجه جمع القلوب كثرة والأبصار قلة وإن كان ذلك هو المعروف في استعمال الفقهاء في جميعها على أن الاسماع قلما قرع السمع ومنه قراءة ابن أبي عبلة في الشواذ وعلى أسماعهم، واستشهد له بقوله:
قالت ولم تقصد لقيل الخنا *** مهلا لقد أبلغت أسماعي
والقول بأنه وحدة للأمن عن اللبس كما في قوله:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا *** فإن زمانكم زمن خميص
ولأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فروعي ذلك ليس بشيء لأن ما ذكر مصحح لا مرجع وأدنى من هذا عندي تقدير مضاف مثل- وحواس سمعهم- وقد اتفق القراء على الوقف على {سمعهم} وظاهره دليل على أنه لا تعلق له بما بعده فهو معطوف على {على قلوبهم} وهذا أولى من كونه هو وما عطف عليه خبرًا مقدمًا لغشاوة أو عاملان فيه على التنازع وإن احمتلته الآية لتعين نظيرهفي قوله تعالى: {وختم على سمعه وقلبه} [الجاثية: 23] والقرآن يفسر بعضه بعضًا ولأن اسمع كالقلب يدرك ما يدركه من جميع الجهات فناسب أن يقرن معه بالختم الذي يمنع من جميعها وإن اختص وقوعه بجانب إلا أنه لاي تعين، ولما كان إدراك البصر لا يكون عادة إلا بالمحاذاة والمقابلة جعل المانع ما يمنع منها وهو الغشاوة لأنها في الغالب كذلك كغاشية السرج، ومثل هذا يكفي في النكات ولا يضره ستره لجميع الجوانب كالإزار، وما في الكشف: من أن الوجه أن الغشاوة مشهورة في أمراض العين فهي أنسب بالبصر من غير حاجة لما تكلفوه، يكشف عن حاله النظر في المعنى اللغوي ممن لا غشاوة على بصره.
ولعل سبب تقديم السمع على البصر مشاركته للقلب في التصرف في الجهات الست مثله دون البصر. ومن هنا قيل: إنه أفضل منه، والحق أن كلا من الحواس ضروري في موضعه، ومن فقد حسًا فقد علمًا، وتفضيل البعض على البعض تطويل من غير طائل.
وقد قرئ بإمالة {أبصارهم} ووجه الإمالة: مع أن الصاد حرف مستعل وهو مناف لها لاقتضائها لتسفل الصوت- مناسبة الكسرة واعترب على الراء دون غيرها لمناسبة الإمالة الترقيق، والمشهور عند أهل العربية أن ذلك لقوة الراء لتكرره على اللسان في النطق به فإنه يرتعد ويظهر ذلك إذا شدد أو وقف عليه فكسرته نزلة كسرتين فقوي السبب حتى أزال المانع. ولعل مرادهم أنه متكرر طبعًا كما يدركه الوجدان إلا أنه يجب المحافظة لئلا يقع التقير فإنه مضر في الأدء حتى الراوي، والجمهور على أن {على أبصارهم} خبر مقدم لغشاوة والتقديم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة مع أن فيه مطابقة الجملة قبله لأنه تقدم الجزء المحكوم به فيها وهذا كذلك، ففي الآية جملتان خبريتان فعلية دالة على التجدد واسمية دالة على الثبوت حتى إن الغشاوة جبلية فيهم وكون الجملتين دعائيتين لييس بشي، وفي تقديم الفعلية إشارة إلى أن ذلك قد وقع وفرغ منه، ونصب المفضل وأبو حيوة وإسماعيل بن مسلم {غشاوة} فقيل هو على تقدير جعل كما صرح به في قوله تعالى: {وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة} [الجاثية: 23]، وقيل إنه على حذف الجار، وقال أبو حيان: يحتمل أن يكون مصدرًا معنى ختم غشاوة كائنة على هذه الأمور لئلا يتصرف بها بالرفع والإزالة، وفي كل ما لا يخفى، فقراءة الرفع أولى، وقرئ أيضًا بضم الغين ورفعه، وبفتح الغين ونصبه، وقرئ {غشوة} بكسر المعجمة مرفوعًا وبفتحها مرفوعًا ومنصوبًا، وغشية بالفتح والرفع وغشاوة بفتح المهملة والرفع، وجوز فيه الكسر والنصب من الغشا بالفتح والقصر وهو الرؤية نهارًا لا ليلًا، والمعنى أنهم يبصرون إبصارًا غفلة لا إبصار عبرة أو أنهم لا يرون آيات الله في ظلمات كفرهم ولو زالت أبصروها، وقال الراغب: العشا ظلمة تعرض للعين، وعشي عن كذا عمي قال تعالى: {ومن يعش عن ذكر الرحمن} [الزخرف: 36] فالمعنى حينئذ ظاهر والتنوين للإشارة إلى نوع من الأعطية غير ما يتعارفه الناس ويحتمل أن يكون للتعظيم أي غشاوة أيّ غشاوة، وصرَّح بعضهم بحمله على النوعية والتعظيم معًا كما حل على التكثير والتعظيم معًا في قوله تعالى: {فقد كذبت رسل} [فاطر: 4] واللام في {لهم} للاستحقاق كما في {لهم في الدنيا خزي} [البقرة: 114] وفي «المغنى»: لام الاستحقاق هي الواقعة بين معنى وذات وهنا كذلك إلا أنه قدم الخبر استحسانًا لأن المبتدأ نكرة موصوفة ولو أخر جاز ك {أجل مسمى عنده} [الأنعام: 2] ويجوز كما قيل: أن يكون تقديمه للتخصيص فلا يعذب عذابهم أحد ولا يوثق وثاقهم أحد وكون اللام للنفع واستعملت هنا للتهكم مما لا وجه له لأنه إنما تقع له في مقابلة على في الدعاء ومايقاربه ولم يقل به أحد ممن يوثق به هنا ولا يقال عليهم العذاب، والظاهر أن الجملة مساقة لبيان إصرارهم حالًا، وقال السيالكوتي: عطف على {الذين كفروا} [البقرة: 6] والجامع أن ما سبق بيان حالهم وهذا بيان ما يستحقونه، أو على خبر إن واجلامع الشركة في المسند إليه مع تناسب مفهوم المسندين، وجعل ذلك لدفع ما يتوهم من عدم استحقاقهم العذاب على كفرهم لأنه بختم الله تعالى وتغشيته ليس بوجيه كما لا يخفى. والعذاب في الأصل الاستمرار ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم، واشتقوا منه فقالوا: عذبته أي دوامت عليه الألم قاله أبو حيان، وعن الخليل: وإليه مال كثير: أن أصله المنع يقال: عذبه أي داومت عليه الألم قاله أبو حيان، وعن الخليل: وإليه مال كثير: أن أصله المنع يقال: عذب الفرس إذا امتنع عن العلف، ومنه العذب لمنعه من العطش ثم توسع فأطلق على كل مؤلم شاق مطلقًا وإن لم يكن مانعًا ورادعًا ولهذا كان أعم من النكال لأنه ما كان رادعًا كالعقاب، وقيل العقاب ما يجازي به كما في الآخرة، وشمل البيان عذاب الأطفال والبهائم وغيرهما، وخص السجاوندي العذاب بإيصال الألم إلى الحي مع الهوان فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب عنده، وقيل: إن العذاب مأخوذ في ألصل من التعذيب ثم استعمل في الإيلام مطلقًا، وأصل التعذيب على ما قيل: إكثار الضرب بعذبة السوط، وقال الراغب أصله من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على بناء مرضته وقذيته والتنكير فيه للنوعية أي لهم في الآخرة نوع من العذاب غير متعارف في عذاب الدنيا، وحمله على التعظيم يستدعي حمل ما يستفاد من الوصف على التأكيد ولا حاجة إليه. والعظيم الكبير، وقيل: فوق الكبير لأن الكبير بيقابله الصفغير والعظيم يقابله الحقير والحقير دون الصغير، فالصغير والحقير خسيسان والحقير أخسهما، والعظيم والكبري شريفان والعظيم أشرفهما فتوصيف العذاب به أكثر في التهويل من توصيفه بالكبير كما ذكؤره الكثير من شاع فضله إذ العادة جارية بأن الأخس يقابل بالأشرف والخسيس بالشريف فما يتوهم من أن نقيض الأخص: أعم: مما لا يلتفت إليه هنا، نعم يشكل على دعوى أن التعظيم فوق الكبير قوله عز شأنه في الحديث القدسي: «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري».
حيث جعل سبحانه الكبرياء مقام الرداء والعظمة مقام الإزار، ومعلوم أن الرداء أرفع من الإزار فيجب أن يكون صفة الكبر أرفع من العظمة، ويقال: إن الكبير هو الكبير في ذاته سواء استكبره غيره أم لا، وأما العظمة فعبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، فالصفة الأولى على هذا ذاتية وأشرف من الثانية ويمكن أن يجاب على بعد بأن ما ذكروه خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في غيره تعلى أو فيما إذا خلا الكلام عن قرية تقتضي العكس، أو يقال: إنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من لكبرياء إزارًا لقلة العارفين به جل شأنه بهذا العنوان بالنظر إل العارفين بعنوان الكبرياء فلقلة أولئك كانت إزارًا ولكثرة هؤلاء كانت رداءًا وسبحان الكبير العظيم، وذكر الراغب أن أصل عظم الرجل كبر عظمه ثم استعير لكل كبير وأدري مجراه محسوسًا كان أو معقولًا معنى كان أو عينًا، والعظيم إذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكبير يقال في المنفصلة، وقد يقال فيها أيضًا: عظيم وهو عن كبير كجيش عظيم، وعظم العذاب بالنسبة إلى عذاب دونه يتخلله فتور وبهذا التخللي يصح ان يتفاضل العذابان كسوداين أحدهما اشبع من الآخر وقد تخلل الآخر ما ليس بسواد. وقه ذهب المسلمون إلى أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار، وهذه الآية وأمثالها شواهد صدق على ذلك. وقال بعضهم: لا يحسن وذكروا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح العقلين فقالوا: التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأنه سبحانه منره عن أن ينتفع بشيء والعبد يترر به ولو سلم انتفاعه فالله تعالى قادر أن يوصل إليه النفع من غير عذاب، والضر الخالي عن النفع قبيح بديهة، وأيضًا إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب وما كان مستعقبًا للضرر من غير نفع قبيح، فأما أن يقال لا تكليف أو تكليف ولا عذاب، وأيضًا هو الخالق لداعية فيقبح أن يعاقب عليها، وقالوا أيضًا: هب أنا سلمنا العقاب فمن أين القول بالدوام؟ وأقسى الناس قلبًا إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه: وعذبه وبالغ فيه وواظب عليه: لامه كل أحد وقيل له إما أن تقتله وتريحه وإما أن تعفو عنه فإذا قبح هذا من إنسان يلتذ بالانتقام، فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدواز؟! وأيضًا من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه، أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون أو يحسن أن يقول في الدنيا: {ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] وفي الآخرة لا يجيب دعاءهم إلا بـ {اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقيلة المفيدة له على أنا ندعي أن أخبار الوعيد في الكفار مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكورًا صريحًا كما قال ذلك فيها من جوز العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكورًا صريحًا كما قال ذلك فيها من جوز العفو عن الفساقن على أنه يحتمل أن تكون تلك الجمل دعائية أو أنهاإخبارية لكن الإخبار عن استحقاق الوقوع لا عن الوقوع نفسه، وهذا خصلاصة ما ذكر في هذا الباب.
وبسط الإمام الرازي الكلام فيه ولم يتعقبه بما شريح الفؤاد ويبرد الأكباد وتلك شنشن أعرفها من أخزم، ولعمري إناه شبه تمكنت في قلوب كثير من الناس فكانت لهم الخناس الوسواس فخلعوا ربقة التكليف وانحرفوا عن الدين الحنيف وهي عند المؤمنين المتمكنين كصرير باب أو كطنين ذباب، فأقول: وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب نفي العذاب مطلقًا مما لم يقله أحد ممن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر حتى إن المجوس لا يقولونه مع أنهم الذين بلغوا من الهذيان أقصاه فإن عقلاءهم: والعقل راحل عنهم: زعموا أن إبليس عليه اللعنة لم يزل في الظلمة عزل عن سلطان الله تعالى ثم لم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب فصار في سلطان الله تعالى وأدخل معه الآفات والشرور فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة له فوقع فيها فصار لا يمكنه الرجوع إلى سطانه فبقي محبوسًا يرمى بالآفات فمن أحياه الله تعالى أماته ومن أصحه أشقمه ومن أسره أحزنه وكل يوم ينقص سلطانه فإذا قامت القيامة وزالت قوته طرحه الله تعالى في الجو وحاسب أهل الأديان وجازاهم على طاعتهم للشيطان وعصيانهم له، نعم المشهور عنهم أن الآلام الدنيوية قبيحة لذاتها ولا تحسن بوجه من الوجوه فهي صادرة عن الظلمة دون النور، وبطلان مذهب هؤلاء أظهر من نار على علم، ولئن سلنما أن أحدًا من الناس يقول ذلك فهو مردود، وغالب الأدلة التي تذكر في هذا الباب مبني على الحسن والقبح العقليين وقد نفاهما أهل السنة والجماعة وأقاموا الأدلة على بطلانهما وشيوع ذلك في كتب الكلام يجعل نقهل هنا من لغو الكلام على أنا نقول إن الله تعالى صفتي لطف وقهر ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك: لا سيما ملك الملوك: كذلك إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ومن منع ذلك فقد كابر، وقد مدح في الشاهد ذلك كما قيل:
يداك يد خيرها يرتجى *** وأخرى لأعدائها غائظة
فلما نظر الله سبحانه إلى ما علمه من الماهيات الأزلية والأعيان الثابة ورأى فيها من استعد للخير وطلبه بلسان استعداه ومن استعد للشر وطلبه كذلك أفاض على كل قتضى حكمته ما استعد له وأعطاه ما طلبه منه ثم كلفه ورغبه ورهبه إتمامًا للنعمة وإظهارًا للحجة إذ لو عذبه وأظهر فيه صفة قهره قبل أن ينذره لرا قال: {لولا أرسلت إلينا رسولًا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزَى} [طه: 134] فالتعذيب وإن لم يكن فيه نفع له سبحانه بالمعنى المألوف لكنه من آثار القهر ووقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالة وكل ما تقتضيه حكمته تعالى وكماله حسن، وإن شئت فقل: إن صفتي اللطف والقهر من مستتبعان ذاته التي هي في غاية لاكمال ولهما متعلقات في نفس الأمر مستعدة لهما في الأزل استعدادًا غير مجعول. وقد علم سبحانه في الأزل التعلقات والمتعلقات فظهرت طبق ما علم ولو لم تظهر كذلك لزم انقلاب الحقائق وهو محال. فالإيمان والكفر في الحقيقة ليسا سببًا حقيقًا وعلة تامة للتنعيم والتعذيب وإنما هما علامتان هلما دعت إليهما الحكمة والرحمة. وهذا معنى ما ورد في الصحيح «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» أما من كان: أي في علم الله: من أهل السعادة المستعدة لهاذاته فسييسر قتضى الرحمة لعمل أهل السعادة لأنه شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات، وأما من كان القهر: لعمل أهل الشقاوة، وفي ذلك تظهر المنة وتتم الحجة ولا يرد في قوله تعالى: {فلو شاء لهداكم أجمعين} [لأنعام: 149] لأن نفي الهداية لنفي المشيئة ولا شك أن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع لثبوت المعلوم في نفس الأمر كما يشير إليه قوله تعالى في المستحيل الغير الثابت في نفسه: {أم تنبّئونه بما لا يعلم في الأرض} [الرعد: 33] وحيث لا ثبوت للهداية في نفسها لا تعلق للعلم بها، وحيث لا تعلق لا مشيئة، فسبب نفي إيجاد الهداية نفي المشيئة وسبب نفي المشيئة تقرر عدم الهداية في نفسها فيئول الأمر إلى أن سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر وعدم تقررها في العلم الأزلي: {ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم} [الأنفال: 23] فإذا انتقش هذا على صحيفة خاطرك، فنقول: قولهم الضرر لاخالي عن النفع قبيح بديهة ليس بشيء لأن ذلك الضرر من آثار القهر التابع للذات الأقدس ومتى خلا عن القهر: كان عز شأنه عما يقوله الظالمون: كالأقطع الذي ليس له إلا يد واحدة بل من أنصفه عقله يعلم أن الخلو عن صفة القهر يخل بالربوبية ويسلب إزار العظمة ويحط شأن الملكية إذ لا يرهب منه حينئذ فيختل النظام وينحل نبذ هذا الانتظام. على أن هذه الشبهة تستدعي عدم إيلام الحيوان في هذه النشأة لا سيما البهائم والأطفال الذين لا ينالهم من هذه الآلام نفع بالكلية لا عجلًا ولا آجلًا مع أنا نشاهد وقوع ذلك أكثر من نجوم السماء فما هو جوابهم عن ههذ الآلام منه سبحانه في هذه النشأة مع أنه لا نفع له منها بوجه فهو جوابنا عن التعذيب في تلك النشأة.
وقولهم إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب الخ، ففيه أن الكافر في علم الله تعالى حسب استعداده متعشق للنار تعشق الحديد للمغناطيس وإن نفر عنها نافر عن الجنة نور الظلمة عن النور وإن تعشقها فهو إن كلف وإن لم يكلف لابد وأن يعذب فياه، ولكن التكليف لاستخراج ما في استعداده من الإباء لإظهرا الحجة والكفر مجرد علامة {وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون} [النحل: 33]. وقولهم هو سبحانه الخالق لداعية المعصية مسلم لكنه خلقها وأظهرها طبق ما دعا إليه الاستعداد الذاتي الذي لا دخل للقدرة إلا في إيجاده وأي قبح في إعطاء الشيء ما طلبه بلسان استعداده وإن أضربه ولا يلزم الله تعالى عقلًا أن يرتك مقتضى حكمته ويبطل شأن ربوبيته مع عدم تعلق علمه بخلاف ما اقتضاه ذلك الاستعداد. وقولهم هب أنا سلمنا العقاب فينم أين الدوام إلخ قلنا الدوام من خبث الذات وقبح الصفات الثابتين فيما لم يزل الظاهرين فيما لا يزال بالإباء بعد التكليف مع مراعاة الحكمة، وهذا الخبث دائم فيهم ما دامت حكمة الله تعالى الذاتية وذواتهم: كما يرشدك إل ذلك: قوله سبحانه: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} [الأنعام: 28] ويدوم المعلول ما دامت عليه أو يقال العذاب وهو في الحقيقة البعد من الله لازم للكفر والملزوم، وأيضًا الكفر مع ظهور البرهان في الأنفس والآفاق ن لا يتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته أمر لا يحيط نطاق الفكر بقبحه وإن لم يتضرر به سبحانه لكن الغيرة الإلهية لا ترتضيه وإن أفاضته القدرة الأزلية حسب الاستعداد قتضى الحكمة، ومثل ذلك يطلب عذابًا أبديًا وعقابًا سرمديًا وشبيه الشيء منجذب إله، ولا يقاس هذا بام ضربه من المثال إذ أين ذل التراب من عزة رب الأرباب، وليس مورد المسألتين منهلًا واحدًا. وقولهم من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه، أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون الخ. ففيه أن من تاب من الكفر فقد أبدل القبيح بضده وأظهر سبحانه مقتضى ذاته وماهيته المعلومة له حسب علمه فهناك حينئذ كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت، وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها تدارك ما فات والندم على الهفوات فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن شيئًا مذكورًا إذ يقابل القبيح بالحسن ويبقى الندم وهو ركن التوبة مكسبًا على أن ظهور الإيمان بعد الكفر دليل على نجابة الذات في نفسها وطهارتها في معلوميتها ولأعمال بالخواتيم فلا بدع في مغفر الله تعالى له جودًا وكرمًا ورحمة الله تعالى: وإن وسعت كل شيء ببعض اعتباراتها: إلا أنها خصت المتقين باعتبار آخر كما يشير إليه قوله تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون} [الأعراف: 156] فهي كمعيته سبحانه الغير المكيفة، ألا تسمع قوله تعالى مرة: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} [المجادلة: 7]، وتارة {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] وكرة {إن الله معنا} [التوبة: 40] وطورًا {إن معي ربي} [الشعراء: 62] ولاينافي كون الرحمة أوسع دائرة من الغضب كما يرمز إليه {الرحمن على العرش استوى} [طه: 5] أن الكفار المعذبين أكثر من المؤمنين المنعمين كما يقتضيه قوله تعالى: {ولكن أكر الناس لا يؤمنون} [الرعد: 1] وكذا حديث البعث لأن هذه الكثرة بالنسبة إلى الملائكة والحور والغلمان {وما يعلم جمود ربك إلا هو} [المدثر: 31] {ويخلق ما لا تعلمون} [النحل: 8] فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب على أن أهل النار مرحومون في عذابهم وما عند الله تعالى من كل شيء لا يتناهى وبعض الشر أهون من بعض وهم متخلفون في العذاب، وبين عذاب طل طبقة وطبقة ما بين السماء والأرض وإن ظن كل من أهلها أنه أشد النا سعذابًا لكن الكلام في الواقع بل منهم من هو ملتذ بعذابه من بعض الجهات ومنهم غير ذلك، نعم فيهم من عذابه محض لا لذ لهم فيه ومع هذا يمقتون أنفسهم لعلمهم أنها هي التي استعدت لذلك ففاض عليها ما فاض من جانب المبدأ الفياض كما يشير إليه قوله تعالى: {لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم} [غافر: 10] ومن غفل منهم عن ذلك نبهه إبليس عليه اللعنة كما حكى الله عنه بقوله: {فلا تلوموني ولوموا أنفسكم} [إبراهيم: 22] ولا تنفعهم التوبة هناك كما تنفعهم هنا إذ قد اختلفت الداران وامتاز الفريقان وانتهى الأمد المضروب لها قتضى الحكمة الإلهية. وقد رأينا في الشاهد أن لنفع الدواء وقتًا مخصوصًا إذا تعداه را يؤثر ضررًا ومن الكفار من يعرف أنه قد مضى الوقت وانقضى ذلك الزمان وأن التوبة إنما كانت في الدار الدنيا ولهذا {قال رب ارجعون* لعلي أعمل صالحًا فيما تركت} [المؤمنون: 99، 100] ولما كان هذا الطلب عارف من وجه جاهل من وجه آخر قال الله تعالى في مقابلته: {كلا إنها كلمة هو قائلها} [المؤمنون: 100] ولم يغلظ عليه كما أغلظ على ما قال: {ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون} [المؤمنون: 108] فلما اختلف الطلب اختلف الجواب وليس كل دعاء يستجاب كما لا يخفى على أولي الألباب. وقولهم بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له فيقال فيه إن أرادوا أن هذه الأدلة العقلية مفيدة لليقين فقد علمت حالها وأنها كسراب بقيعة وليتها أفادت ظنًا وإن أرادوا مطلق الأدلة العقلية فهذه ليست منها على أن كون الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين إنما هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة، والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات، ومن صدق القائل يعلم عدم المعارض العقلي فإنه إذا تعين المعنى وكان مرادًا له فلو كان هناك معارض عقلي لزم كذبه، نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأن كوها مفيدة لليقين مبني على أنه هل يحصل جردها والنظر فيها: وكون قائلها صادقًا: الجزم بعدم المعارض العقلي وأنه هل للقرينة التي تشاهد أو تنقل تواترًا مدخل في ذلك الجزم وحصول ذلك الجزم جردها ومدخلية القرينة فيه مما لا يمكنه الجزم بأحد طرفيه الإثبات والنفي فلا جرم كانت إفادتها اليقيين في العقليات محل نظر وتأمل.
فإن قلت: إذا كان صدق القائل مجزومًا به لزم منه الجزم بعدم المعارض في العقليات كما لزم منه في الشرعيات وإلا احتمل كلامه الكذب فيهما فلا فرق بينهما. قلت: أجاب بعض المحققين بأن المراد بالشرعيات أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتًا وانتفاء ولا طريق إليها، وبالعقليات ما ليس كذلك وحينئذ جاز أن يكون من الممتنعات فلأجل هذا الاحتمال را لم يحصل الجزم بعدم المعارض العقلي للدليل النقلي في العقليات وإن حصل الجزم به في الشرعيات وذلك بخلاف الأدلة العقلية في العقليات فإنها جردها تفيد الجزم بعدم المعارض لأنها مركبة من مقدمات علم بالبديهة صحتها أو علم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة، وحينئذ يستحيل أن يوجد ما يعارضها لأن أحكام البديهة لا تتعارض بحسب نفس الأمر أصلًا.
هذا وقال الفاضل الرومي هاهنا بحث مشهور وهو أن المعنى بعدم المعارض العقلي في الشرعيات صدق القائل وهو قائم في العقليات أيضًا وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتًا أو انتفاء لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخافي من العقل فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم لئلا يلزم كذبه وإبطال قطع العقل بصدقه فالحق أن النقلي يفيد القطع في العقليات أيضًا ولا مخلص إلا بأن يقال المراد أن النظر في الأدلة نفسها والقرائن في الشرعيات يفيد الجزم بعدم المعارض لأجل إفادة الإرادة من القائل الصادق جزمًا. وفي العقليات إفادته الجزم بعدمه محل نظر بناء على أن إفادته الإرادة محتملة انتهى. وقد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره إلى تقديم الدليل النقلي على العقلي فقال في الباب الثاني والسبعين والأربعمائة من الفتوحات:
على السمع عولنا فكنا أولي النهى *** ولا علم فيما لا يكون عن السمع
وقال قدس سره في الباب الثامن والخمسين والثلثمائة:
كيف للعقل دليل والذي *** قد بناه العقل بالكشف انهدم
فنجاة النفس في الشرع فلا *** تك إنسانًا رأى ثم حرم
واعتصم بالشرع في الكشف فقد *** فاز بالخير عبيد قد عصم
اهمل الفكر فلا تحفل به *** واتركنه مثل لحم في وضم
إن للفكر مقامًا فاعتضد *** به فيه تك شخصًا قد رحم
كل علم يشهد الشرع له *** هو علم فيه فلتعتصم
وإذا خالفه العقل فقل *** طورك الزم ما لكم فيه قدم
ويؤيد هذا ما روي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: إن للعقل حدًا ينتهي إليه كما أن للبصر حدًا ينتهي إليه، وقال الإمام الغزالي: ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل كما لا تستبعد أن يكون العقل طورًا وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه عوالم وعجائب يقصر عنها الاحساس والتمييز إلى آخر ما قال ففيما نحن فيه في القرآن والسنة المتواترة ما لا يحصى مما يدل على الخلود في النار، وفي العذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها فتأويلها كلها جرد شبه أضعف من حبال القمر، والعدول عنها إلى القول بنفي العذاب أو الخلود فيه مما لا ينبغي لا سيما في مثل هذه الأوقات التي فيها الناس كما ترى، على أن هذه التأويلات في غاية السخافة إذ كيف يتصور حقيقة الدعاء من رب الأرض والسماء أم كيف يكون التعليق بعد النظر في قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [النساء: 48] أم كيف يقبل أن يكون الاخبار عن الاستحقاق دون الوقوع على ما فيه في مثل قوله تعالى: {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97] و{كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] سبحانك هذا بهتان عظيم. وأما ما ينقل عن بعض السلف الصالح وكذا عن حضرة مولانا الشيخ الأكبر ومن حذا حذوه من السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم من القول بعدم الخلود فذلك مبني على مشرب آخر وتجل لم ينكشف لنا، والكثير منهم قد بنى كلامه على اصطلاحات ورموز وإشارات قد حال بيننا وبين فهمها العوائق الدنيوية والعلائق النفسانية، ولعل قول من قال بعدم الخلود ممن لم يسلك مسلك أهل السلوك مبني على عدم خلود طائفة من أهل النار وهم العصاة مما دون الكفر وإن وقع إطلاق الكفر عليهم حمل على معنى آخر كما حمل على رأي في قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الصلاة فقد كفر»، على أن الشيخ قدس سره كم وكم صرح في كتبه بالخلود فقال في عقيدته الصغرى أول الفتوحات: والتأبيد لأهل النار في النار حق، وفي الباب الرابع والستين في بحث ذبح الموت ونداء المنادي يا أهل النار خلود ولا خروج ما نصه: ويغتم أهل النار أشد الغم لذلك ثم تغلق أبواب النار غلقًا لا فتح بعده وتنطبق النار على أهلها ويدخل بعضهم في بعض ليعظم انضغاطهم فيها ويرجع أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويرى الناس والجن فيها مثل قطع اللحم في القدر التي تحتها النار العظيمة تغلي كغلي الحميم فتدور في الخلق علوًا وسفلًا {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97]
وذكر الشيخ عبد الكريم الجيلي في كتابه المسمى بـ «الإنسان الكبير»، وفي «شرح لباب الأسرار من الفتوحات»: أن مراد القوم بأن أهل النار يخرجون منها هم عصاة الموحدين لا الكفار، وقال: إياك أن تحمل كلام الشيح محيي الدين أو غيره من الصوفية في قولهم بانتهاء مدة أهل النار من العصاة على الكفار فإن ذلك كذب وخطأ وإذا احتمل الكلام وجهًا صحيحًا وجب المصير إليه انتهى، نعم قال قدس سره في تفسير الفاتحة من الفتوحات: فإذا وقع الجدار وانهدم الصور وامتزجت الأنهار والتقى البحران وعدم البرزخ صار العذاب نعيمًا وجهنم جنة ولاعذاب ولا عقاب إلا نعيم وأمان شاهدة العيان الخ، وهذا وأمثاله محمول على معنى صحيح يعرفه الذوق لا ينافي ما وردت به القواطع، وقصارى ما يخطر لأمثالنا فيه أنه محمول على مسكن عصاة هذه الأمة من النار، وفيه: يضع الجبار قدمه ويتجلى بصفة القهر على الناس فتقول قط قط ولا تطيق تجليه فتخمد ولا بعد أن تلحق بعد بالجنة وإياك أن تقول بظاهره مع ما أنت عليه وكلما وجدت مثل هذا لأحد من أهل الله تعالى فسلمه لهم بالمعنى الذي أرادوه مما لا تعلمه أنت ولا أنا لا بالمعنى الذي ينقدح في عقلك المشوب بالأوهام فالأمر والله وراء ذلك والأخذ بظواهر هذه العبارات النافية للخلود في العذاب وتأويل النصوص الدالة على الخلود في النار بأن يقال الخلود فيها يستلزم الخلود في العذاب لجواز التنعم فيها وانقلاب العذاب عذوبة مما يجر إلى نفي الأحكام الشرعية وتعطيل النبوات وفتح باب لا يسد. وإن سولت نفسك لك ذلك قلبنا البحث معك ولنأتينك بجنود من الأدلة لا قبل لها بها وما النصر إلا من عند الله وكان حقًا علينا نصر المؤمنين، ولا يوقعنك في الوهم أن الخلود مستلزم لتناهي التجليات فالله تعالى هو الله وكل يوم هو في شأن فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ولا أظنك تجد هذا التحقيق من غيرنا والحمد لله رب العالمين.


{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ ؤْمِنِينَ (8)}
هذه الآية وما بعدها إلى آخر القصة معطوفة على قصة {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} [البقرة: 6] وكل من المتعاطفين مسوق لغرض إلا أن فيهما من النعي على أهل الضلال ما لا يخفى وقد سيقت هذه الآية إلى ثلاث عشر آية لنعي المنافقين الذين ستروا الكفر وأظهروا الإسلام فهم بحسب الظاهر أعظم جرمًا من سائر الكفار كما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ المنافقين فِى الدرك الاسفل مِنَ النار} [النساء: 145] والناس أصله عند سيبويه والجمهور أناس وهو جمع أو اسم جمع لإنسان، وقد حذفت فاؤه تخفيفًا فوزنه فعال، ويشهد لأصله إنسان وإنس وأناسي ونقصه وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بأل فالأكثر نقصه ومن عرف خص بالبلاء ويجوز إتمامه على قلة كما في قوله:
إن المنايا يطلع *** ن على الأناس الآمنينا
وهو مأخوذ من الأنس ضد الوحشة لأنسه بجنسه لأنه مدني بالطبع ومن هنا قيل:
وما سمى الإنسان إلا لأنسه *** ولا القلب إلا أنه يتقلب
أو من آنس أي أبصر قال تعالى: {مِن جَانِبِ الطور نَارًا} [القصص: 29] وجاء عنى سمع وعلم، وسمي به لأنه ظاهر محسوس، وذهب السكاكي إلى أنه اسم تام وعينه واو من نوس إذا تحرك بدليل تصغيره على نويس فوزنه فعل.
وفي الكشاف أنه من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل، وقيل: من نسي بالقلب لقوله تعالى في آدم عليه السلام: {فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] وهذا مروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فوزنه حينئذ فلع ولا يستعمل في الغالب إلا في بني آدم، وحكى ابن خالويه عن ناس من العرب: أناس من الجن، قال أبو حيان: وهو مجاز وإذا أخذ من نوس يكون صدق المفهوم على الجن ظاهرًا لا سيما إذا قلنا إن النوس تذبذب الشيء في الهواء، وعن سلمة بن عاصم أنه جزم بأن كلا من ناس وأناس مادة مستقلة واللام فيه إما للجنس أو للعهد الخارجي فإن كان الأول فمن نكرة موصوفة وإن كان الثاني فهي موصولة مرادًا بها عبد الله بن أبيّ وأشياعه، وجوز ابن هشام وجماعة أن تكون موصولة على تقدير الجنس وموصوفة على تقدير العهد لأن بعض الجنس قد يتعين بوجه ما وبعض المعينين قد يجهل باعتبار حال من أحواله كأهل محلة محصورين فيهم قاتل لم يعرف بعينه كونه قاتلًا وإن عرف شخصه فلا وجه للتخصيص عند هؤلاء، وقيل إن التخصيص هو الأنسب لأن المعرف بلام الجنس لعدم التوقيت فيه قريب من النكرة وبعض النكرة نكرة فناسب من الموصوفة للطباق والأمر بخلافه في العهد، وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى: {مّنَ المؤمنين رِجَالٌ} [الأحزاب: 23] {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبى} [التوبة: 61] لأنه أريد في الأول الجنس، وفي مرجع الضمير في الثاني طائفة معينة من المنافقين، ولما كان في الآية تفصيل معنوي لأنه سبحانه ذكر المؤمنين ثم الكافرين ثم عقب بالمنافقين فصار نظيرًا للتفصيل اللفظي، وفي قوة تفصيل الناس إلى مؤمن وكافر ومنافق تضمن الأخبار عمن يقول بأنه من الناس فائدة، ولك أن تحمله على معنى من يختفي من المنافقين معلوم لنا ولولا أن الستر من الكرم فضحته فيكون مفيدًا أيضًا وملوحًا إلى تهديد ما، وقيل: المراد بكونه من الناس أنهم لا صفة لهم تميزهم سوى الصورة الإنسانية، أو المراد التنبيه على أن الصفات المذكورة تنافي الإنسانية فيتعجب منها أو مناط الفائدة الوجود أي إنهم موجودون فيما بينهم أو إنهم من الناس لا من الجن إذ لا نفاق فيهم، أو المراد بالناس المسلمون والمعنى أنهم يعدون مسلمين أو يعاملون معاملتهم فيما لهم وعليهم، ولا يخفى ما في بعض هذه الوجوه من الكلف والتكلف ولكل ساقطة لاقطة، واختار أبو حيان هنا أن تكون {مِنْ} موصلة مدعيًا أنها إنما تكون موصوفة إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في الأكثر، وفي غير ذلك قليل حتى أن السكاكي على علو كعبه أنكره ولا يخفى ما فيه، ولا يرد على إرادة العهد أنه كيف يدخل المنافقون مطلقًا في الكفرة المصرين المحكوم عليهم بالختم وإن {وَمِنَ الناس} الآية وقع عديلًا لأن الذين كفروا بيانًا للقسم الثالث المذبذب فلا يدخل فيه لأن المراد بالمنافقين المصممون منهم المختوم عليهم بالكفر كما يدل عليه {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] لا مطلق المنافقين ولأن اختصاصهم بخلط الخداع والاستهزاء مع الكفر لا ينافي دخولهم تحت الكفرة المصرين؛ وبهذا الاعتبار صاروا قسمًا ثالثًا فالقسمة ثنائية بحسب الحقيقة ثلاثية بالاعتبار، وفي قوله تعالى: {يِقُولُ ءامَنَّا} مراعاة للفظ من ومعناها ولو راعى الأول فقط لقال آمنت أو الثاني فقط لقال يقولون ولما روعيا جميعًا حسن مراعاة اللفظ أولًا إذ هو في الخارج قبل المعنى والواحد قبل الجمع ولو عكس جاز، وزعم ابن عطية أنه لا يجوز الرجوع من جمع إلى توحيد ويرده قول الشاعر:
لست ممن يكع أو يستكينو *** ن إذا كافحته خيل الأعادي
واقتصر من متعلق الإيمان على الله واليوم الآخر مع أنهم كانوا يؤمنون بأفواههم بجميع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم لأنهما المقصود الأعظم من الإيمان إذ من آمن بالله تعالى على ما يليق بجلال ذاته آمن بكتبه ورسله وشرائعه، ومن علم أنه إليه المصير استعد لذلك بالأعمال الصالحة، وفي ذلك إشعار بدعوى حيازة الإيمان بطرفيه المبدأ والمعاد وما طريقه العقل والسمع ويتضمن ذلك الإيمان بالنبوة أو أن تخصيص ذلك بالذكر للايذان بأنهم يبطنون الكفر فيما ليسوا فيه منافقين في الجملة لأن القوم في المشهور كانوا يهودًا وهم مخلصون في أصل الإيمان بالله واليوم الآخر على ظنهم، ومع ذلك كانوا ينافقون في كيفية الإيمان بهما ويرون المؤمنين أن إيمانهم بهما مثل إيمانهم فكيف فيما يقصدون به النفاق المحض وليسوا مؤمنين به أصلًا كنبوة نبينا صلى الله عليه وسلم والقرآن أو أنهم قصدوا بتخصيص الإيمان بهما التعرض بعدم الإيمان بخاتم الرسل صلى الله عليه وسلم وما بلغه ففي ذلك بيان لمزيد خبثهم، وهذا لو قصد حقيقته حينئذ لم يكن إيمانًا لأنه لابد من الإقرار بما جاء به صلى الله عليه وسلم فكيف وهو مخادعة وتلبيس؟ا وقيل: إنه لما كان غرضهم المبالغة في خلوص إسلامهم بأنهم تركوا عقائدهم التي كانوا عليها في المبدأ والمعاد واعترفوا أنهم كانوا في ضلال خصوا إيمانهم بذلك لأنهم كانوا قائلين بسائر الأصول، وأما النبوة فليس في الإيمان بها اعتراف بذلك، وأيضًا ترك الراسخ في القلب مما عليه الإباء بترك الإيمان به صلى الله عليه وسلم من المسلمات فكأنهم لم يتعرضوا له للإشارة إلى أنه مما لا شبهة في أنهم معتقدون له بعد اعتقادهم ما هو أشد منه عليهم وحمل {بالله وباليوم الأخر} على القسم منهم على الإيمان سمج بالله، وأسمج منه راتب حمله على القسم منه تعالى على عدم إيمانهم بتقدير ما آمنوا {وَمَا هُم ؤْمِنِينَ} فيجب أن يكون الباء صلة الإيمان وكررت مبالغة في الخديعة والتلبيس بإظهار أن إيمانهم تفصيلي مؤكد قوي.
واليوم الآخر يحتمل أن يراد به الوقت الدائم من الحشر بحيث لا يتناهى أو ما عينه الله تعالى منه إلى استقرار كل من المؤمنين والكافرين فيما أعد له، وسمي آخرًا لأنه آخر الأوقات المحدودة والأشبه هو الأول لأن إطلاق اليوم شائع عليه في القرآن سواء كان حقيقة أو مجازًا ولأن الإيمان به يتضمن الإيمان بالثاني لدخوله فيه من غير عكس، نعم المناسب للفظ اليوم لغة هو الثاني لمحدوديته وهو على كل تقدير مغاير لما عند الناس لأن اليوم عرفًا من طلوع الشمس إلى غروبها وشرعًا على الصحيح من طلوع الفجر الصادق إلى الغروب، واصطلاحًا من نصف النهار إلى نصف النهار والأمر وراء ذلك، وسيأتي لذلك تتمة، وفي قوله سبحانه: {وَمَا هُم ؤْمِنِينَ} حيث قدم الفاعل وأولى حرف النفي رد لدعوى أولئك المنافقين على أبلغ وجه لأن انخراطهم في سلك المؤمنين من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء الملزوم، وقد بولغ في نفي اللازم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقًا، وأكد ذلك النفي بالباء أيضًا وهذا سبب العدول عن الرد بما آمنوا المطابق لصدر الكلام، وبعضهم يجري الكلام على التخصيص وأن الكفار لما رأوا أنفسهم أنهم مثل المؤمنين في الإيمان الحقيقي وادعوا موافقتهم قيل في جوابهم: {هُم ؤْمِنِينَ} على قصر الإفراد والذوق يبعده، وإطلاق الوصف للإشارة إلى العموم وأنهم ليسوا من الإيمان في شيء، وقد يقيد بما قيد به سابقه لأنه واقع في جوابه إلا أن نفي المطلق يستلزم نفي المقيد فهو أبلغ وأوكد.
وفي هذه الآية دلالة على أن من لم يصدق بقلبه لا يكون مؤمنًا، وأما على أن من أقر بلسانه وليس في قلبه ما يوافقه أو ينافيه ليس ؤمن فلا لوجود المنافي في المنافق هنا لأنه من المختوم على قلبه أو لأن الله تعالى كذبه وليس إلا لعدم مطابقة التصديق القلبي للساني كذا قيل، ودقق بعضهم مدعيًا أن من يجعل الإيمان الإقرار اللساني سواء يشترط الخلو عن الانكار والتكذيب أم لا يشترط أن يكون الإقرار بالشهادتين ولا يكفي عنده نحو آمنت بالله وباليوم الآخر لأن المدار على النطق بهما كما ورد في الصحيح حتى اشترط بعضهم لفظ اشهد، والاسم الخاص به تعالى واسم محمد صلى الله عليه وسلم فليس في الآية حينئذ دليل على إبطال مذهب الكرامية بوجه فليتدبر.


{يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}
أصل الخدع بفتح الخاء وكسرها الإخفاء والإيهام، وقيل: بالكسر اسم مصدر، ومنه المخدع للخزانة والأخدعان لعرقين خفيين في موضع المحجمة وخدع الضب إذا توارى واختفى ويستعمل في إظهار ما يوهم السلامة وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير أو التلخص منه كما قاله الإمام، وقال السيد: هو أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه وتصيبه به، وفي الكشف التحقيق أن الخدع صفة فعلية قائمة بالنفس عقيب استحضار مقدمات في الذهن متوصل بها توصلًا يستهجن شرعًا أو عقلًا أو عادة إلى استجرار منفعة من نيل معروف لنفسه أو إصابة مكروه لغيره مع خفائهما على الموجه نحوه القصد بحيث لا يتأتى ذلك النيل أو الإصابة بدونه أو لو تأتى لزم فوت غرض آخر حسب تصوره وعليه يكون الحرب خدعة مجازًا ولا تخفى غرابته. والمخادعة مفاعلة، والمعروف فيها أن يفعل كل أحد بالآخر مثل ما يفعله به فيقتضي أن يصدر من كل واحد من الله ومن المؤمنين ومن المنافقين فعل يتعلق بالآخر، وظاهر هذا مشكل لأن الله سبحانه لا يخدع ولا يخدع، أما على التحقيق لأنه غني عن كل نيل وإصابة واستجرار منفعة لنفسه وهو أيضًا متعال على التعمل واستحضار المقدمات ولأنه جل عن أن يحوم حول سرادقات جلاله نقص الانفعال وخفاء معلوم ما عليه، وأما على ما ذكره السيد فلأنه جل شأنه أجل من أن تخفى عليه خافية أو يصيبه مكروه فكيف يمكن للمنافقين أن يخدعوه ويوقعوا في علمه خلاف ما يريدون من المكروه ويصيبونه به مع أنهم لكونهم من أهل الكتاب عالمون باستحالة ذلك، والعاقل لا يقصد ما تحقق لديه امتناعه، وأما أنه لا يخدع فلأنه وإن جاز عندنا أن يوقع سبحانه في أوهام المنافقين خلاف ما يريده من المكاره ليغتروا ثم يصيبهم به لكن يمتنع أن ينسب إليه لما يوهمه من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم لأنه المعهود منه في الإطلاق كما في الانتصاف ولذا زيد في تفسيره مع استشعار خوف أو استحياء من المجاهرة، وأما المؤمنون وإن جاز أن يخدعوا إلا أنه يبعد أن يقصدوا خدع المنافقين لأنه غير مستحسن بل مذموم مستهجن وهي أشبه شيء بالنفاق وهم في غنى عنه على أن الانخداع المتمدح به هو التخادع عنى إظهار التأثر دونه كرمًا كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن غر كريم» لا الانخداع الدال على البله، ولذا قالت عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما: كان أعقل من أن يخدع وأفضل من أن يخدع، ويجاب عن ذلك بأن صورة صنيعهم مع الله تعالى حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، وصورة صنيع الله تعالى معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عند أهل الدرك الأسفل، وصورة صنيع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله تعالى فيهم فأجروا ذلك عليهم تشبه صورة المخادعة ففي الكلام إما استعارة تبعية في {يخادعون} وحده أو تمثيلية في الجملة وحيث إن ابتداء الفعل في باب المفاعلة من جانب الفاعل صريحًا وكون المفعول آتيًا ثل فعله مدلول عليه من عرض الكلام حسن إيراد ذلك في معرض الذم لما أسند إليه الفعل صريحًا وكون مقتضى المقام إيراد حالهم خاصة كما قاله مولانا مفتي الديار الرومية مما لا يخدش هذا الوجه الحسن أو يجاب كما قيل بأن المراد مخادعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقع الفعل على غير ما يوقع عليه للملابسة بينهما وهي الخلافة فهناك مجاز عقلي في النسبة الإيقاعية وهذا ظاهر على رأي من يكتفي بالملابسة بين ما هو له وغير ما هو له، وأما على رأي من يعتبر ملابسة الفعل بغير ما هو له بأن يكون من معمولاته فلا، على أنه يبقى من الإشكال أن لا خدع من الرسول والمؤمنين ولا مجال لأن يكون الخدع من أحد الجانبين حقيقة ومن الآخر مجازًا لاتحاد اللفظ وكأن المجيب إما قائل بجواز الجمع بين الحقيقة والمجاز أو غير قائل بامتناع صدور الخدع من الرسول والمؤمنين حتى يتأتى لهم ما يريدون من إعلاء الدين ومصالح المسلمين.
وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وأبو حيوة {يخدعون} والجواب عما يلزم هو الجواب فيما يلزم، وقد تأتي فاعل عنى فعل كعافاني الله تعالى وعاقبت اللص فلا بعد في حمل قراءة الجمهور على ذلك ويكون إيثار صيغة المفاعلة لإفادة المبالغة في الكيفية فإن الفعل متى غولب فيه بولغ به أو في الكمية كما في الممارسة والمزاولة فإنهم كانوا مداومين على الخدع و{يخادعون} إما بيان لـِ {يقول} [البقرة: 8] لا على وجه العطف إذ لا يجري عطف البيان في الجمل عند النحاة وإن أوهمه كلام أهل المعاني وإما استئناف بياني كأنه قيل لم يدعون الإيمان كاذبين وماذا نفعهم؟ فقيل يخادعون الخ، وهذا في المآل كالأول ولعل الأول أولى.
وجوز أبو حيان كون هذه الجملة بدلًا من صلة {من} [البقرة: 8] بدل اشتمال أو حالًا من الضمير المستكن في {يقول} [البقرة: 8] أي مخادعين، وأبو البقاء أن يكون حالًا من الضمير المستتر في {مؤمنين} [البقرة: 8]، ولعل النفي متوجه للمقارنة لا لنفس الحال كما في ما جاءني زيد، وقد طلع الفجر {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] على أنه قد تجعل الحال ونحوها في مثل ذلك قيدًا للنفي لا للمنفي كما قرروه في لم أبالغ في اختصاره تقريبًا، وجعل الجملة صفة للمؤمنين ممنوع لمكان النفي والقيد وليست حال الصفة كصفة الحال فلا عجب في تجويز إحداهما ومنع الأخرى كما توهمه أبو حيان في «بحره»، نعم التعجب من كون الجملة بيانًا للتعجب من كونهم من الناس كما لا يخفى.
ثم إن الغرض من مخادعة هؤلاء لمن خادعوه كالغرض من نفاقهم طبق النعل بالنعل فقد قصدوا تعظيمهم عند المؤمنين والتطلع على أسرارهم ليفشوها ورفع القتل عنهم أو ضرب الجزية عليهم والفوز بسهم من الغنائم ونحو ذلك وثمرة مخادعة من خادعوه إياهم إن كانت حكم إلهية ومصالح دينية را يؤدي تركها إلى مفاسد لا تحصى ومحاذير لا تستقصى، وقرأ الحرميان وأبو عمرو: {وَمَا يخادعون}، وقرأ باقي السبعة: {وَمَا يَخْدَعُونَ} وقرأ الجارود وأبو طالوت: {وَمَا يَخْدَعُونَ} بضم الياء مبنيًا للمفعول. وقرأ بعضهم: {وَمَا يخادعون} بفتح الدال مبنيًا للمفعول أيضًا وقرأ قتادة والعجلي: {وَمَا يَخْدَعُونَ} من خدع مضاعفًا مبنيًا للفاعل، وبعضهم بفتح الياء والخاء وتشديد الدال المكسورة وما عدا القراءتين الأوليين شاذة وعليهما نصب أنفسهم على المفعولية الصرفة أو مع الفاعلية معنى، وأما على قراءة بناء الفعل للمفعول فهو إما على إسقاط الجار أي في أنفسهم أو عن أنفسهم أو على التمييز على رأي الكوفيين أو التشبيه بالمفعول على زعم بعضهم أو على أنه مفعول بتضمين الفعل يتنقصون مثلًا، ولا يشكل على قراءة {يخادعون} أنه كيف يصح حصر الخداع على أنفسهم، وذلك يقتضي نفيه عن الله تعالى والمؤمنين، وقد أثبت أولًا، وإن المخادعة إنما تكون في الظاهر بين اثنين فكيف يخادع أحد نفسه لأنا نقول المراد أن دائرة الخداع راجعة إليهم وضررها عائد عليهم فالخداع هنا هو الخداع الأول والحصر باعتباره أن ضرره عائد إلى أنفسهم فتكون العبادة الدالة عليه مجازًا أو كناية عن انحصار ضررها فيهم أو نجعل لفظ الخداع مجازًا مرسلًا عن ضرره في المرتبة الثانية، وكونه مجازًا باعتبار الأول كما قاله السعد غير ظاهر. وقد يقال إنهم خدعوا أنفسهم لما غروها بذلك وخدعتهم حيث حدثتهم بالأماني الخالية، فالمراد بالخداع غير الأول. والمخادع والمخادع متغايران بالاعتبار فالخداع على هذا مجاز عن إيهام الباطل وتصويره بصورة الحق، وحمله على حقيقته بعيد وكون ذلك من التجريد كقوله:
لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
لا يرتضيه الذوق السليم كالقول بأن الكلام من باب المبالغة في امتناع خداعهم لله تعالى وللمؤمنين لأنه كما لا يخفى خداع المخادع لنفسه فيمتنع خداعه لها يمتنع خداع الله تعالى لعلمه والمؤمنون لاطلاعهم باعلامه تعالى أو الكناية عن أن مخالفتهم ومعاداتهم لله تعالى وأحبابه معاملة مع أنفسهم لأن الله تعالى والمؤمنين ينفعونهم كأنفسهم، وبعضهم يجعل التعبير هنا بالمخادعة للمشاكلة مع كون كل من المشاكل والمشاكل مجازًا وكل يعمل على شاكلته.
والنفس حقيقة الشيء وعينه ولا اختصاص لها بالأجسام لقوله تعالى: {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 12] {وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] وتطلق على الجوهر البخاري اللطيف الحال لقوة الحياة والحس والحركة الإرادية وسماها الحكيم الروح الحيوانية وأول عضو تحله القلب إذ هو أول ما يخلق على المشهور، ومنه تفيض إلى الدماغ والكبد وسائر الأعضاء ولا يلزم من ذلك أن يكون منبت الأعصاب إذ من الجائز أن يكون العضو المستفيد منبتًا لآلة الاستفادة، وقيل: الدماغ لأنه المنبت ولم تقم دلالة قطعية على ذلك كما في «شرح القانون» للإمام الرازي وكثيرًا ما تطلق على الجوهر المجرد المتعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهي الروح الأمرية المرادة في من عرف نفسه فقد عرف ربه وتسمى النفس الناطقة وبتنوع صفاتها تختلف أسماؤها وأحظى الأعضاء بإشراق أنوارها المعنوية القلب أيضًا ولذلك الشرف قد يسمى نفسًا، وبعضهم يسمي الرأي بها، والظاهر في الآية على ما قيل: المعنى الأول إذ المقصود بيان أن ضرر مخادعتهم راجع إليهم ولا يتخطاهم إلى غيرهم وليس بالمتعين كما لا يخفى، وتطلق على معان أخر ستسمعها مع تحقيق هذا المبحث إن شاء الله تعالى.
وجملة {وَمَا يَشْعُرُونَ} مستأنفة أو معطوفة على {وَمَا يَخْدَعُونَ إلاَّ أَنفُسَهُمْ} ومفعول {يَشْعُرُونَ} محذوف أي: وما يشعرون أنهم يخدعونها أو أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون أو إطلاع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على خداعهم وكذبهم كما روي ذلك عن ابن عباس أو هلاك أنفسهم وإيقاعها في الشقاء الأبدي بكفرهم ونفاقهم كما روي عن زيد، أو المراد لا يشعرون بشيء، ويحتمل كما في البحر أن يكون {وَمَا يَشْعُرُونَ} جملة حالية أي: وما يخدعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك ولو شعروا لما خادعوا، والشعور الادراك بالحواس الخمس الظاهرة ويكون عنى العلم، قال الراغب: شعرت كذا يستعمل بوجهين بأن يؤخذ من مس الشعر ويعبر به عن اللمس؛ ومنه استعمل المشاعر للحواس، فإذا قيل: فلان لا يشعر فذلك أبلغ في الذم من أنه لا يسمع ولا يبصر لأن حس اللمس أعم من حس السمع والبصر، وتارة يقول: شعرت كذا أي أدركت شيئًا دقيقًا من قولهم شعرته أي أصبت شعره نحو أذنته ورأسته وكان ذلك إشارة إلى قولهم فلان يشق الشعر إذا دق النظر؛ ومنه أخذ الشاعر لإدراك دقائق المعاني انتهى. والآية تحتمل نفي الشعور عنى العلم فمعنى {لاَّ يَشْعُرُونَ} لا يعلمون وكثيرًا ما ورد بهذا المعنى، وفي اللحاق نوع إشارة إليه، ويحتمل نفيه عنى الإدراك بالحواس فيجعل متعلق الفعل كالمحسوس الذي لا يخفى إلا على فاقد الحواس، ونفي ذلك نهاية الذم لأن من لا يشعر بالبديهي المحسوس مرتبته أدنى من مرتبة البهائم فهم كالأنعام بل هم أضل. ولعل هذا أولى لما فيه من التهكم بهم مع الدلالة على نفي العلم بالطريق الأولى، وهو أيضًا أنسب بقوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة} [البقرة: 7] كما لا يخفى.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8